إن التنوع والاختلاف في حياة الأفراد والمجتمعات حقيقة لا يجادل فيها أحد بل يمكن اعتبارها مسلَّمة من المسلمات، ولكن التحدي الحقيقي هو قبول هذا التنوع والاختلاف والتعايش معه بحيث يؤدي إلى إثراء الحياة الإنسانية والارتقاء بها نحو الأفضل وليس تحويل هذا التنوع والاختلاف إلى ميدان تناحر وفرقة تتشتت فيه جهود البناء وتنعكس سلباً على حياة البشر ومجتمعاتهم.والتعايش مع مبدأ التنوع والاختلاف كرافد للتنمية يتطلب بيئة ثقافية تستوعب كل الآراء والتوجهات وتصهرها في بوتقة واحدة بما يحفظ للأفراد خصوصياتهم، مع الحفاظ على المصلحة العليا للمجتمع، بحيث تكون هذه الخصوصيات مصدر قوة له وليس سبب تخاصم وعداوة بين أفراده. ومع أن الأمر يبدو من الناحية النظرية سهلاً والجميع يتبناه ويدعو إليه، ولكن إذا تأملنا واقعنا في العالم العربي نجد خلاف ذلك، فعلى المستوى الفردي نعترف بالاختلاف بشرط أن تتقبل رأيي في النهاية وتسلم به وإلا فإنك ستتحول إلى عدو لي، وسيتحول الحوار من مناقشة للفكرة إلى عداوة شخصية استحضر فيها كل ماضيك لإثبات عدم إلمامك وعدم نزاهتك والطعن في نواياك، وهذا ستجده لدى البعض ممن يتشدق ليل نهار بأن الاختلاف رحمة وبعبارات جميلة مثل "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، وهنا يحضرني مثل لأحد الكـُتاب كتب مقالًا عن إحدى الجماعات فكان الرد عليه بمقال بسرد تاريخه منذ أن كان في المدرسة الثانوية وحتى يومنا هذا في هجوم على شخصه وليس فكره، ولم يتعرض الرد للآراء التي ذكرها ذلك الكاتب في مقاله. والأمر أشد وأسوأ على المستوى الجماعي، فالاختلاف المذهبي والطائفي والديني أصبح يهدد السلم الأهلي والنسيج الاجتماعي في بعض الدول العربية، ولتأجيجه تسخر له الأموال والطاقات ويستحضر من أحداث التاريخ وفواجعه ليشعل ناراً مؤججة لا يستطيع أحد إطفاءها ولا يسلم أحد من سعار لهيبها، وفي النهاية ليس هناك رابح فيها بل الجميع خاسر وأولهم اللحمة الوطنية في تلك الدول. ولو حاورت طرفاً من الأطراف المؤججة لهذا النوع من الاختلاف فستسمع أيضاً حديثاً جميلاً عن ثقافة الاختلاف، ولكنه في النهاية يريد اختلافاً تكون الغلبة فيه لمذهبه أو طائفته أو دينه على حساب الآخرين في حقوقهم الأساسية كبشر، لهم حق الاختيار الذي كفلته لهم الأديان السماوية والقوانين الدولية، وهذا ما نلمسه في الدول العربية التي عصف بها الأحداث، فالتنوع والاختلاف أصبحا في بعضها يشكلان خطراً يهدد المجتمع بأسره لأن بعض الأطراف لا ترى في السلطة غيرها بأجندتها التي على الآخرين تقبلها والالتزام بها. وكل ذلك يعود إلى أننا لا نملك ثقافة الاختلاف، وأن البناء الفكري والنفسي لنا كأفراد يقوم على الرأي الواحد الذي هو رأينا وأن للحقيقة وجهاً واحداً هو ما نراه نحن فقط، ولذا فليس كل من رفع شعار الحرية والعدالة مؤمناً بثقافة التنوع والاختلاف، بل هو يقصد، في أحيان كثيرة، حريته هو لا غيره، والعدالة التي تخدم مصلحته هو وليس مصلحة المجتمع بمختلف مكوناته.